مهاجر غير شرعي (1) ليلة من ليالي رمضان بقلم جمال عمر

26 09 2011

                                        (1)

 

          أذن المؤذن لصلاة المغرب، معلنا اكتمال يوم آخر من صيام أيام شهر رمضان. الثالث من شهر فبراير، تحلقت أسرتي حول طبلية الطعام، أبي : فلاح في الرابعة والخمسين من العمر، لكن ملامح وجهه توحي أنه أكبر من ذلك بعشرين عاما، قد حرقت حرارة الشمس جلده، فأصبح كلون حبات الفول السوداني التي تحمصت أكثر مما ينبغي، وقد أخذ التدخين من خلايا رئتيه الكثير، ففي كل مرة يسعل فيها، كأنه يلفظ أحد هذه الخلايا في منديله. وأمي التي تتفجر حيوية ونضارة، نحلة تنتقل بين الزهور لتمتص الرحيق من أجل اطعامنا. أربعة أبناء، ولدين وابنتين، وقد تزوجت احدى أخواتي، أنا أكبر الأبناء سنا.

 حول الطبلية نتناول طعام الافطار، الكلمات بيننا قليلة، نتحسس كلماتنا، يترقب كل منا كلمات الآخر.

 أنا في جهة والباقين كلهم في جهة أخرى، شيئا ما يحدث، كلنا نعرف ماهو ولكننا نخاف من مواجهته، نترقب حدوثه، كأنه جنين في الرحم نعرف أنه قادم، بل نعرف أنه ذكر ونعرف أن موعده في هذا الشهر، ومع ذلك لانعرف ما هي ملامحه، ما لون عينية كيف سيكون صوت صراخه.

انتظرت حتى أكملنا تناول الطعام، الذي لا أذكر ماذا كان لأني لم أره، تناولته ومضغته ولكني كنت في عالم آخر، بداخلي ِحمل ثقيل حمل إخبار أسرتي. حملته داخلي خلال الثلاثة أشهر السابقة، وحان الوقت الليلة لأخبرهم، بل الآن.

       لم أعرف من أين أبدأ، كنت دائما أعتقد أنني رقيق القلب، تحركني المشاعر والعواطف وخصوصا تجاه أسرتي، لكن فجأتني نفسي، بشخص وقلب آخرين، صلادة  وجمود، كأنني ممثل في مسرحية لا علاقة بين دوره في المسرحية وبين دوره في الحياة. نظرت الى اخوتي ولم أستطع أن أنظر الى عيني أمي، وفي ألفاظ واضحة لم أتلعثم في نطقها أو أتتردد فيها، أخبرتهم أني مسافر الليلة، ولن يأتي معي أحد ليودعني. فلا أريد أن يعلم أحد من أبناء القرية، حتى اقاربنا، لن يعرف الا عدد قليل من أسرتي وبعض الأصدقاء. لم أنتظر لسماع رد أو اجابة على ما قلت، كمذيع يقرأ نشرة الأخبار على شاشة التلفزيون. وذهبت الى غرفتي.

 

  أخي الذي يصغرني بعشر سنوات، كان لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره، تتخاطفه نوازع كثيرة، فجأة شعر أنه أصبح رجل، مسئول عن أسرة وأن عبيء قد حل على كاهله، بين بداية وجبة طعام ونهايتها ، كان سعيد وحزين يريد أن يسمع كلامي وينفذ طلباتي و في نفس الوقت لايريد أن يفعل. طلبت منه أن يذهب ليخبر أربعة من أصدقائي أنني أريدهم في الحال لأمر عاجل الليلة. وذهبت أختي الصغرى لتأتي بأختي المتزوجة من بيتها، كل ذلك في دقائق بعد تناول طعام افطار رمضان.

       في غرفتي كنت أعد حقيبة صغيرة أحملها على كتفي كأني مسافر لبضعة أيام، حتى لا ألفت الأنظار والانتباه، وكذلك لأكون خفيف في حركتي. ان عملية الرحيل والمغادرة للتسلل الى أمريكا أو الى البلاد الأوروبية، تتم في سرية كاملة وكأنها عملية غزو عسكرية، فكلما قل عدد من يعرفون كان أفضل، والحفاظ على سرية العملية اكبر شرط للتوفيق. فقرب وتداخل الصلات والعلاقات الأسرية والجيرة، في قريتنا، هذا التقارب وذلك القرب يولدان نار الحسد والحقد والغيرة، بيننا، فنحتفي بالشماته والمعايرة في حالة الفشل في مثل هذه الرحلة. لذلك فحينما أخرج في هذا الطريق، كمن يعلن أنه يضحي بنفسه من أجل الوطن والأمة في عملية فدائية، فبقدر الفرح والصخب لذكراك، لكن آه وألف آه لو تراجعت أو فشلت، او ترردت، أنه طريق بلا عودة، الا فائزا .

وياويلك اذا خرجت من بيتك في وضح النهار تصحبك الزغاريد والسلامات مسافرا وبعد أيام تُشَاهد في شوارع القرية . فهذه الأرض بالرغم مما تغمرنا به من حب واحتواء، فحينما تلفظنا، تلفظنا بعنفوان لا يرحم ، لذلك فنحن نرحل في خفية وصمت، قدر ما نستطيع، وكأننا نتسلل، حتى لا تدري بأننا راحلون. وكأن لسان حالها يقول، افعلوها، ارحلوا، لكن في الخفاء، افعلوها ولا تخبرون، افعلوها ولاتذكروها أو تتحدثوا عنها.

        مرت تلك الدقائق عصيبة منذ أن أخبرت أسرتي برحيلي وكنت في غرفتي أتظاهر بأنني أعد حقيبة اليد ولم يقترب أحد من الغرفة، كانت لحظات رهيبة، لم تمر علينا من قبل، لم يكسر هذا الصمت الا وصول أربعة من أصدقائي، وأخبرتهم بسفري الليلة وأن الوداع سيكون من هنا من هذه الغرفة، فلا أريد أن يشعر أحد من الجيران، بأي شيء، لكن أصدقائي أصرو على الذهاب معي حتى المطار، وفشلت كل محاولاتي لاثنائهم، فشعرت بالندم لاخبارهم، فأنت تحكم السر، طالما لم تخرج الكلمات من فاك، اللحظة التي تخرج هذه الكلمات من بين الشفتين، تحيط الأيادي رقبتك، ويصبح مصيرك في أيدي الأخرين. أخيرا طلبت منهم أن يخرجوا ويذهبوا الى الطريق المؤدي لخارج القرية ولنتقابل هناك.

طلبت من أخي أن يحمل حقيبتي ويذهب بها وحده، حتى أقابله على الطريق خارج القرية. فخرجوا جميعا بعد فترة قليلة واحد بعد الاخر. وحانت اللحظة، لحظة الوداع.

        أبي فلاح بسيط، حاول طوال حياته أن يرعى أبناءه قدر استطاعته، لايشعرك بمعزتك عنده، فرغم طيبة قلبة، لا تُخرج هذه المشاعر ألفاظ تعبر عنها، اندفاعه يظهره على أنه شديد وقاسي، وتساعد في ذلك قسوة ملامحه التي عصرها الزمن، يرَهبه الناس ليس لقوة جسمانية عنده، لكن لنخوة وجرءة قد يفسرها البعض بالتهور والاندفاع، علو صوته وغلظته، تعبر عن قوة وشدة، كانت المرة الأولى التي أرى فيها عينيه دامعتين، حينما كنت أنزل درجات السلم وكأن كل درجة أنزلها مطرقة تطرق حنايا قلبه، احتضني في لهفة، طالما بحثت عنها في علاقتنا طوال السنين، لكنه كأرضنا لابد ان تطرقها بالفأس لتخرج خيرها، أدركت مدى طيبة قلبه وغزارة مشاعرة وتدفقها، تلك المشاعر التي طالما حجبها عنا، وفي اندفاعة قوية سحب نفسه من ذراعي، وغاب داخل غرفته.

       الحنان اذا صفي وركز في انسان، فأمي هذا الانسان، بالرغم من حنانها ورقتها، وجدتها قوية صلدة، تحتضنني في قوة ولهفة، لكن عينيها لم تدمع، غمرتني بالدعوات، ونصائح الحذر والحيطة في طريقي، فرأيتها أكثر عزما من أبي. سلمت على أخواتي الللائي اجتمع عندهن الشعور بالنشوة، لشيء جديد تأخر طويلا في أسرتنا، فالسفر ومغادرة البلاد جزء من حياة قريتنا، نشأنا عليه فلا يوجد شارع أو أسرة الا ولها شخص في الخارج، في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت دول الخليج لها نصيب الأسد، ولكن مع التسعينيات بدأ السفر الى الغرب يأخذ النصيب الأكبر، وخصوصا السفر الغير قانوني عبر الحدود لكل من ايطاليا وأمريكا.

 لم يترك أبي ولا عمي البلاد الى دول الخليج كما فعل الكثيرون، فكنا كأطفال نرى ماذا يُحضر هؤلاء من ملابس وأجهزة كهربائية، لأبناءهم واسرهم، لم يكن لنا ملابس ولا اجهزة مثلها، وكم كنت اتمنى ان يكون لي قريب مسافر، حتى أصبح ان يكون لك اب او اخ او ابن مسافر كأنها مستوى اجتماعي، كأنك تقول أن قريبي فلان بك أو باشا، حينما تقول انه مسافر، وخصوصا اذا كان مسافر الى دولة أوروبية، وياسلام اذا كان مسافر الى أمريكا، فهذه أعلاهم جميعا درجة ومرتبة في قريتنا.

 موجة السفر الى الغرب صار لها عدد من السنوات، وتفرز تغيرات عديدة في حياة قريتنا، وها أنا ألحق بالركب، فأنا الأن في طريقي للتسلل الى أمريكا عبر الحدود، أمريكا التي يتردد اسمها كالطبل في بلادنا بالرغم من ألالاف الأميال التي تفصلنا عنها،  هكذا شعر أخواتي و تحمسن لسفري الذي تأخر كثيرا بمقاييس قريتنا.

نظرت الى حوائط بيتنا الريفي، ووجه أمي وملامح اخوتي. لا نعرف هل أو متى سوف نلتقي مرة أخرى؟ خرجت في هذه الليلة الرمضانية، الباردة متسللا، أحاول ألا يشعر بي أحد من الجيران، أو تشعر قريتي أني مفارقها، فتغضب علي وتنبذني.

     قابلت أخي، حاملا حقيبة الكتف على الطريق المؤدي الى خارج القرية، كان وداعي لأخي قوة دفع لي، حيث وجوده يمدني بعزم لمواجهة المجهول الذي ينتظرني، فأتقبل مخاطره، أخي قد أصبح في ريعان الشباب، قوي البنية، حنون على والديه، فهو العزم والسند لهم بعد رحيلي، احتضنته في لهفة وداع، أصررت أن يكون وداعنا على الطريق المؤدي الى خارج القرية، وليس من داعي، ذهابه معي الى المطار.

 

       كنت أود أن أخذ مواصلات عادية من مدينة بنها الى مطار القاهرة، ربما لأنني كنت أفكر في توفير نقودي للمجهول الذي ينتظرني، الا أن أحد أصحابي اتفق مع سيارة أجرة من النوع ” السوزكي ” التي تشتهر بها مدينة بنها، فكأنها بطة صغيرة تمرح في شوارع المدينة، أخذنا السيارة من على ضفاف النيل، في طريقنا الى مطار القاهرة .

انخرط أصحابي في حديث كنت محجوب عنه بالأفكار والهواجس التي تدور في رأسي، ماذا لوذهبت الى المطار، وكانت هناك مشكلة، شهادة تأدية الخدمة العسكرية، ليست واضحة بالقدر الكافي، أو شيء ما بجواز السفر. بل تذكرة الطائرة لدولة الاكوادور، من يسافر من مصر الى “الاكوادور”؟ بل أين هي” الاكوادور” على خريطة الدنيا؟ دائما الدولة تطحننا من خلال بيروقراطيتها، التي لا تشعر بالناس بقدر ماتهتم باستيفاء الأوراق واتباع القواعد واللوائح، وكاننا خلقنا من أجل النظام وليس النظام وضع من أجلنا.

في ذهني تجربتي للحصول على اجازة بدون مرتب من عملي كمدرس في مدينة شبرا، حيث كتبت الطلب عبارة عن سطرين على ورقة طويلة، فيمضي ناظر المدرسة ويختم، وكذلك مدير المدرسة يمضي ويختم ويرفعها الى رئيس القطاع، ذهبت الى رئيس القطاع في مدرسة أخرى، يؤشر لا بالرفض أو بالقبول، بل يرفعها الى الادارة التعليمية والادارة التعليمية ترفعها الى المنطقة التعليمية التي تمضي وتختم وترفعها الى مديرية التعليم في بنها. فتمتليء الصفحة الأولى بالامضاءات والتوقيعات، فننتقل الى ظهر الورقة، وداخل مديرية التعليم ثلاث مكاتب وامضاءات وأختام حتى أصل ويصل الطلب الى مكتب وكيل مديرية التربية والتعليم، الذي لا أستطيع الدخول عليه الا في أيام محددة، ولما دخلت، أشر برفض الطلب للعجز في مدرسي التخصص.

 

تكررت هذه الدورة و تلك الرحلة ثلاث مرات، نفس التوقيعات والاختام ونفس النتيجة .

 حتى أخبرني صديق لي: خلص الطلب من المنطقة التعليمية في شبرا، وحينما تصل الى مرحلة المديرية في بنها وتحتاج الى امضاء المديرية وموافقتها. هناك شخص أعرفه من جهاز التنظيم والادارة في المحافظة يستطيع أن ينهي لك الطلب مقابل مبلغ من المال. حيث لهم نفوذ على الادارة، وقد كان.

انتهى الطلب في دقائق، بقوة الجنيهات العجيبة، وحتى عقد العمل في “الاكوادور”، كان مزورا ولكن قوة الجنيهات العجيبة حركت البيرقراطية بسرعة البرق، فحصلت على اجازة عام بدون مرتب للعمل في دولة “الاكوادور”. في غمضة عين. وصلني الطلب الى البيت ولم احتج حتى الذهاب الى مبنى المديرية. ولا الوقوف على أبوابها .  


إجراءات

Information

2 تعليقان

28 04 2010
عمرو عبد الرازق

شوقتنا للاستكمال أستاذ جمال..
فى أول نزول للقاهرة سأبحث عن الكتاب0
تحياتى

28 04 2010
جمال عمر

يا عمر باشا
هذا من زوقك وكرمك

أضف تعليق